بعد نحو عام ونصف العام من انعقاد مؤتمر برلين الأول بشأن الأزمة الليبية في يناير 2020، جاءت النسخة الثانية من المؤتمر في 23 يونيو 2021 لتُثير عدداً من التساؤلات؛ يرتبط بعضها بمستقبل هذه الأزمة، وما يمكن أن تؤول إليه التفاعلات مستقبلاً، في ظل الزخم الكبير المصاحب للتطورات الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وقد تشكلت تفاعلات ما بعد مؤتمر «برلين 2» وفقاً لمسارين؛ أحدهما يحمل قدراً من التفاؤل في إمكانية البناء على مخرجات المؤتمر والوفاء بمسار التسوية في ليبيا، فيما جاء المسار الثاني مُحمّلاً بمزيد من الترقب وعدم اليقين بشأن نتائج هذا المؤتمر، خصوصاً مع استمرار التحديات والإشكاليات التي قد تقوض أية تفاهمات مستقبلية.
سياقات متغيرة:
جاء انعقاد مؤتمر «برلين 2» وسط سياق مختلف لما كان عليه الوضع خلال النسخة الأولى من هذا المؤتمر في العام الماضي، وذلك في ظل التحولات التي تشهدها البيئة الداخلية والخارجية المرتبطة بالأزمة الليبية وتفاعلاتها، وهو ما يمكن الوقوف عليه في ما يلي:
1- حضور ليبي مغاير
يُنظر إلى طبيعة وحدود التمثيل الليبي في مؤتمر «برلين 2» بوصفه أحد التحولات الكبرى المغايرة للنسخة الأولى من المؤتمر، فبعدما كانت ليبيا منقسمة بين قوتين متصارعتين في «برلين 1»، أصبحت الآن تحظى بعضوية كاملة وموحدة، ممثلة في حكومة الوحدة الوطنية. وقد برزت تجليات هذا التحول في تبني الوفد الحكومي الليبي مبادرة تستهدف استعادة الاستقرار في ليبيا، وفق رؤية تدعم المقاربة الرامية إلى تعزيز الحل الليبي للأزمة. وقد ارتكزت فلسفة هذه المبادرة على تبني آلية تصبح من خلالها ليبيا مرتكزاً أساسياً للتفاعلات المستقبلية المرتبطة بالأزمة، وهذا ما عبّرت عنه وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، بالتأكيد على أن المبادرة تتضمن «إنشاء مجموعة عمل دولية تترأسها ليبيا، على أن تنعقد بصورة دورية على مستوى وزراء الخارجية، بهدف دعم وتعزيز الرؤية الليبية لحل الأزمة».
2- انخراط أميركي متصاعد
يدخل التحول الذي طرأ على الموقف الأميركي تجاه ليبيا ضمن السياقات المؤثرة في نسخة «برلين 2»؛ فعلى خلاف إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، بدا الانخراط المباشر أكثر وضوحاً من قِبل إدارة بايدن، وهو ما يعبر عن توجهات الإدارة الحالية ومساعيها لتعزيز حضورها الدبلوماسي في تسوية الأزمة الليبية. ففي الوقت الذي تبنى فيه ترامب مقاربة «القيادة من الخلف» عبر منح تركيا الضوء الأخضر وغض الطرف عن تحركاتها في ليبيا بهدف موازنة الدور الروسي، جاءت سياسة بايدن الحالية محددة وتستهدف دعم المرحلة الانتقالية واستكمال الاستحقاق السياسي، والمطالبة بإنهاء التدخلات الخارجية في ليبيا، فضلاً عن المطالبة بانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة، واتضح ذلك في محطات عدة عبّرت عنها تحركات ولقاءات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن. وقد يضفي هذا الدور الأميركي المتصاعد مزيداً من الزخم والضمانات، التي قد تسهم في نقل الأزمة الليبية إلى مرحلة أكثر تقدماً وإيجابية.
3- سيولة أمنية مقلقة
تشهد دول الجوار الليبي حالة من السيولة والاضطرابات الأمنية المتصاعدة، خصوصاً في أعقاب مقتل الرئيس التشادي، إدريس ديبي، في أبريل 2021، علاوة على تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية في دول الساحل والصحراء، وحالة التنافس القائمة بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» في هذه المنطقة. وعليه يمكن أن تؤثر هذه الأوضاع بشكل كبير على مجمل الحالة الأمنية الليبية، ومن ثم الاستقرار السياسي المأمول، خصوصاً أن تلك الجماعات تجيد استغلال الفراغات للتمدد فيها، وهو ما اتضح من خلال عملية «داعش» التي استهدفت نقطة تفتيش في مدينة سبها جنوب ليبيا يوم 6 يونيو الماضي. وهذه المخاوف ترجمتها المادة 29 من مخرجات «برلين 2»، والتي أكدت ضرورة دعم ليبيا في تأمين حدودها للسيطرة على حركة الجماعات المسلحة وغيرها من مصادر التهديد.
4- تراجع مؤشرات العسكرة
يُعقد مؤتمر «برلين 2» في ظل تراجع ملامح التصعيد ومؤشرات العسكرة عبر نجاح المسار العسكري بعد توقيع طرفي الأزمة الليبية، وبرعاية أممية، على اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، وهو ما أسهم في تسكين حدة الصراع، والانتقال إلى المسار السياسي.
من ناحية أخرى، لا ينفصل الهدوء الحالي في منطقة شرق المتوسط وتراجع مؤشرات التصعيد عن المشهد في ليبيا، خصوصاً أن تركيا قد اتخذت من توقيع الاتفاق البحري مع حكومة الوفاق السابقة برئاسة فايز السراج في نوفمبر2019، مدخلاً للنفاذ إلى شرق المتوسط ومحاولة فرض أمر واقع لتجاوز عزلتها. وعليه يُنظر إلى تهدئة الأوضاع في الداخل وإقليم شرق المتوسط ضمن السياقات المؤثرة في المشهد والتي أسهمت في تهيئة الأجواء للبحث عن تسوية سياسية تُعزز من الاستقرار وتدفع بالأزمة للأمام.
مخرجات وعراقيل
شهد مؤتمر «برلين 2»، في 23 يونيو الجاري، تطوراً ملحوظاً في عدد المشاركين مقارنة بالنسخة الأولى، حيث اتسع حجم المشاركة من 12 دولة وأربع منظمات دولية إلى 17 دولة وأربع منظمات. وعلى الرغم من أن مستوى التمثيل في النسخة الأولى كان على مستوى الرؤساء، مقارنة بالنسخة الثانية التي اقتصرت على وزراء خارجية الدول المشاركة؛ فإن نتائج «برلين 2» أضفت مزيداً من الزخم والترقب بدرجة كبيرة. وعليه يمكن الوقوف على أبرز المخرجات التي ركزت عليها أجندة مؤتمر «برلين 2» والتحديات التي تفرضها الحالة الليبية على تلك المخرجات، وذلك على النحو التالي:
1- الحاجة لاستكمال الاستحقاقات السياسية
شدد المشاركون في «برلين 2» على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في ديسمبر 2021. وعلى الرغم من أن هذه القضية قد حظيت بإجماع المشاركين كافة، فإن هناك جملة من التحديات التي قد تُعرقل الوصول إلى الانتخابات، ومن بينها الإشكالية المرتبطة بالتوافق على القاعدة الدستورية، والإعداد للانتخابات؛ ففي الوقت الذي يؤيد طرف إجراء الانتخابات أولاً، يمنح الطرف الآخر الأولوية للدستور. كما أن آلية الاختيار عبر الاقتراع المباشر أو من خلال مجلس النواب لم تحسم بعد.
ومن ناحية أخرى، تظل الحاجة إلى تهيئة الأجواء الأمنية قبل الانتخابات تحدياً يجب التعاطي معه، خصوصاً في ظل صعوبة إجراء الانتخابات تحت تأثير السلاح الذي تمتلكه بعض الفصائل المسلحة. ويدور التحدي الثالث حول عدم وضوح آلية تسجيل الناخبين الليبيين، سواء في الداخل أو الخارج، علاوة على النازحين جراء تفاقم الصراع.
2- التعاطي مع المرتزقة والقوات الأجنبية
هيمّن هذا الملف على أجندة مؤتمر «برلين 2» بوصفه إحدى أكثر القضايا الشائكة والمعقدة، والتي من شأنها أن تربك المشهد، إذ يوجد في ليبيا 20 ألف مرتزق وفقاً لتصريحات المبعوثة الأممية السابقة إلى ليبيا، ستيفاني وليامز، في فبراير 2021. وعلى الرغم من توافق أغلبية المشاركين على تفريغ الساحة الليبية من المرتزقة والقوات الأجنبية، فإن ذلك لا يخلو من تحديات عدة، منها عدم وجود آلية واضحة ومحددة وفقاً لجدول زمني لسحب هذه العناصر، فضلاً عن التحدي المرتبط بتأكيد الحضور على السحب التدريجي وليس الفوري لتلك العناصر، وهو ما يعني أن المسار السياسي قد يتم في أجواء ميليشاوية وبيئة أمنية غير مهيأة.
ويُضاف إلى ذلك، الدور التركي كمقوض للجهود الدولية في هذا الصدد، وهو ما بدا من خلال تحفظ أنقرة على المادة 5 من مخرجات مؤتمر «برلين 2»، حيث ترغب تركيا في المماطلة وتعزيز حضورها عبر التمييز بين المرتزقة والقوات الأجنبية، وتدّعي أن وجودها يظل في إطار قانوني وشرعي وفقاً لمذكرات التفاهم التي عقدتها مع حكومة السراج، على الرغم من أن تلك الاتفاقيات لم تكن ضمن صلاحيات حكومة الوفاق، ولم يقرها مجلس النواب الليبي.
3- الدعوة إلى توحيد المؤسسات وتعزيز المصالحة
تطرقت أجندة مؤتمر «برلين 2» إلى أهمية توحيد المؤسسات الليبية بعيداً عن الانقسام، علاوة على الحاجة الضرورية إلى دعم المصالحة بين الفرقاء. ومع ذلك يوجد عدد من العراقيل أمام هذا المسار، ومن بينها أزمة الثقة بين مختلف الأطراف الداخلية، ناهيك عن امتلاك الميليشيات السلاح، وعدم احتكار الدولة لأدوات القوة، الأمر الذي يعيق أية محاولات لتوحيد المؤسسات أو تحقيق مصالحة شاملة؛ نظراً للطبيعة الولائية لهذه الميليشيات وارتباطها بأجندات على المستويين الداخلي والخارجي، والقناعة بأن امتلاك السلاح والقوة يحافظ للميليشيات على حضورها ونفوذها.
4- إدارة الموارد وتوزيع العوائد الاقتصادية
أوضحت أجندة المؤتمر الحاجة الضرورية لتوزيع الموارد بين الليبيين بشكل عادل، ودعم حكومة الوحدة الوطنية في توفير الخدمات الأساسية، والانخراط في عملية إعادة الإعمار. ويأتي الملف الاقتصادي في مرتبة لاحقة من حيث الأولويات، بعد التعاطي مع المرتزقة وإجراء الانتخابات، حيث إن الحديث عن أية مكاسب اقتصادية يمكن أن يأتي في أعقاب تسوية الأزمة وحل الصراع في ليبيا، وهو ما يتماشى مع تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «الإسكوا» والتي انتهت إلى أن ثمار السلام والمكاسب الاقتصادية المباشرة على ليبيا ودول الجوار التي قد تنخرط في إعادة الإعمار قد تصل إلى نحو 162 مليار دولار حتى عام 2025.
تعقيدات.. ورغبات
أصبح مؤتمر برلين ضمن المرجعيات الأساسية للتعاطي مع الأزمة الليبية، وعلى الرغم من حالة الزخم الدبلوماسي المتصاعد والتوافق بين أغلب القوى الإقليمية والدولية بشأن حلحلة هذه الأزمة، فإن القيود والعراقيل لاتزال قائمة، وفي مقدمتها الرغبة التركية الدائمة في فرض أمر واقع وتعزيز حضورها في المشهد. وتبقى حدود الانفراجة والتعقيد في ليبيا مرتبطة بالتفاعلات المقبلة. من ناحية أخرى، يظل التعقيد قائماً في ما يتعلق بإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية بالقدر ذاته المتعلق بتوحيد المؤسسات الليبية.
على الرغم من توافق أغلبية المشاركين في «برلين 2» على تفريغ الساحة الليبية من المرتزقة والقوات الأجنبية، فإن ذلك لا يخلو من تحديات عدة، منها عدم وجود آلية واضحة ومحددة وفقاً لجدول زمني لسحب هذه العناصر، فضلاً عن التحدي المرتبط بتأكيد الحضور على السحب التدريجي وليس الفوري لتلك العناصر، وهو ما يعني أن المسار السياسي قد يتم في أجواء ميليشاوية وبيئة أمنية غير مهيأة.
تطرقت أجندة مؤتمر «برلين 2» إلى أهمية توحيد المؤسسات الليبية بعيداً عن الانقسام، علاوة على الحاجة الضرورية إلى دعم المصالحة بين الفرقاء. ومع ذلك يوجد عدد من العراقيل أمام هذا المسار، ومن بينها أزمة الثقة بين مختلف الأطراف الداخلية، ناهيك عن امتلاك الميليشيات السلاح، وعدم احتكار الدولة لأدوات القوة، الأمر الذي يعيق أية محاولات لتوحيد المؤسسات أو تحقيق مصالحه شاملة.